إلى البصرة

essay image

البصرة، لطالما ارتبط اسم هذه المدينة بذاكرة الكويتيين كوجهة سياحية وثقافية محببة لهم منذ القدم، وآخر زيارة لي إليها كانت عام 1967، شابًا أمشي على ضفاف شط العرب بطريقنا إلى بغداد ومن ثم الي لبنان مع خالي رحمه الله تعالى، ولوالدي هناك منزل جميل على شط العرب، كأنه من منازل الباشوات في مصر أيام الملكية، ولديه كذلك مسجد كبير وعمارة تجارية والتي كانت هي سبب زيارة البصرة، فالمنزل بيع منذ وفاة الوالد، والجامع قُمنا بترميمه من خلال بيت الزكاة قبل عقد من الزمن، أما تلك العمارة فقصتها قصة طويلة ومعقدة لا يسعها المقال، ولكن بيعت بالمزاد وكان علينا بصفتنا أوصياء مع الهيئة العامة لشؤون القُصَّر على ثلث المرحوم الوالد، الذهاب إلى البصرة وإنهاء الإجراءات القانونية وفق الإجراءات المتبعة هناك، وجزاه الله خيرا محامينا وصديقنا المستشار عبدالرحمن النمش ما قصّر، رتب كل الأمور مع قنصلية دولة الكويت هناك، والذين لم يألوا جهداً في المساعدة وتذليل العقبات وجزاهم الله خيرا، والمهم، قبل السفرة بجم يوم صار لي ظرف وكلفت عبدالله ولد أخي بالسفر مع بوفهد، مع أنه كان ودّي الذهاب ورؤية تلك المدينة وما آلت إليه منذ أكثر من خمسة عقود من الزمن، فالكويتيون بذلك الزمان يحبون روحة البصرة ليقضوا مشترياتهم من الخضار والفواكه والبقصم والقيمر والأجبان واللومي اليابس والخريط، طبعاً غير التمور والرطب البرحي في موسمه، وكان البعض، وإن كانوا قلة، تكون رحلتهم للبصرة بنهاية الأسبوع، وياما صارت حوادث مرورية عند عودتهم بنهاية الأسبوع، طبعاً العائلات الكويتية التي عاشت في البصرة أيام الملكية لهم ذكريات جميلة، حيث كانت البصرة تعج بالتجارة والثقافة والعمارة الجميلة، إلى أن جاءت ثورة عبدالكريم قاسم ودعوته المشؤومة بضم الكويت إلى قضاء البصرة كما ادعى، وأذكر انتفاضة أهل الكويت والتظاهرات الشعبية بصوت واحد تقول: «يابو سالم عطنا سلاح احنا نحارب وانت ارتاح»، كل تلك الذكريات أخذت تراودني قبيل السفر، ولكن الله ما كتب، عبدالله وبوفهد قاموا بالمهمة ووصيتهم بالبقصم والقيمر والجبنة البغدادية، وخلوني أقول لكم تجربة عبدالله اللي ما لحق على البصرة القديمة وكما ذكر أنقل إليكم التجربة على لسانه: «في يوم الوصول الأول ذهبنا للتمشية في كورنيش شط العرب والذي لا يزال متزيناً بإضاءة فوانيس رمضان، هناك تشاهد العوائل مستمتعة مع أطفالها، وتجد كل شخص يترزق بطريقته، فشخص يضع استيديو للتصوير، وآخر يبيع المكسرات، وامرأة كبيرة بالسن تبيع الدولمة، وشباب يحملون القهوة العربية يضيفون المارة، وشاب آخر يلبس لباس الشخصيات للأطفال ويمزح مع المارة، وآخر ينادي لركوب المركب لجولة عبر شط العرب، وقد لاحظت أن الكثير ممن يعملون على المراكب في أعمار صغيرة؛ وفي أثناء المشي لفت انتباهي تمثال، فإذا هو تمثال للشاعر بدر شاكر السياب، وهو شاعر عراقي مشهور وأحد مؤسسي الشعر الحر في الأدب العربي، خُلّدت ذكراه بتمثال نقشت تحته إحدى أشهر قصائده التي تعبر عن حبه لوطنه: «الشمس أجمل في بلادي من سواها والظلام حتى الظلام هناك أجمل فهو يحتضن العراق»، وبعدها ركبنا في أحد المراكب في جولة بشط العرب مع صوت الأغاني العراقية، ثم اختُتمت الجولة في مطعم الزرزور بصينية من المشاوي وبالإضافة لضيافة كاملة مجانية من المطعم من حمص وسلطات وشاي عراقي مخدر، ورأيت بعضهم يشرب الشاي من الطبق أسفل الاستكانة، وفي اليوم الثاني ذهبنا في زيارة لسوق العشار ووجدت فيه روح البصرة القديمة، وعبق البهارات، ونداءات الباعة، واشتريت الصوايغ المختلفة، وكان غداؤنا يومها سمك المسقوف العراقي الشهير بضيافة القنصلية الكويتية، وفي المساء كان العشاء في مطعم الحسون وطبق مشاوي، والعرايس كانت لذيذة، وكان بودي زيارة شارع الفراهيدي لبيع الكتب المستعملة ولكنه يفتح في عطلة نهاية الأسبوع؛ كانت زيارة جميلة، البلد في طريقه للتطور والتعافي، الظروف صعبة ولكن روح الأمل لا تبارحه لحياة أفضل»؛ وهذي كانت وجهة نظر عبدالله اللي ما قصّر، وأوصل لنا الصوغة البصراوية من قيمر وبقصم وخلافه، اللي فعلاً ما زالت متميزة كما كنت، وبالعودة إلى مقالنا، لعلّ تصفيات كأس الخليج التي استضافتها البصرة مؤخرًا، كانت الشرارة التي أعادت فتح باب التلاقي بعد قطيعة طويلة منذ الغزو الغاشم، ومن القلب أتمنى الازدهار لجميع الدول المحيطة بالخليج، حيث الارتفاع بمستوى المعيشة لمواطنيها والاستقرار السياسي والأمني يجعلان من الخليج جنة أمن وأمان وازدهار تجاري وثقافي قد يكون ذلك حلماً وأمنية ولكن الأحلام والأماني قد تتحقق، وفي الختام أتقدم بالشكر للصديق العزيز المستشار عبدالرحمن النمش على الجهد المبذول في هذه الرحلة، ولابن أخي عبدالله، والشكر موصول لسعادة قنصل الكويت في البصرة السيد أحمد الحداد لكرم الضيافة وكل ما بذلوه لتسهيل هذه الرحلة، كفيت ووفيت.

وتسلمون.

جريدة القبس في عددها الصادر الثلاثاء الثاني والعشرون من أبريل 2025 (الرابط الإلكتروني).

إلى البصرة - PDF