هاتف من الأندلس
كل ما تقرب إجازة للأسباط، تبدأ محاولات إقناعي بالسفر لحضور إحدى المباريات، وهذه المرة وقع الاختيار على مدريد، حيث مباراة فريق أتلتيكو مدريد ضد فريق ليل الفرنسي في دوري أبطال أوروبا، ولاحظت أن اسم الملعب تغيّر من ميتروبوليتانو إلى «طيران الرياض»، وبحسب إفادة الأحفاد، فإن «طيران الرياض» دفعت ٣٠٠ مليون يورو كراعٍ رسمي للنادي، والصراحة، فإن رؤية اسم «الرياض» على الملعب أسعدني كثيراً، كما أُسعد حينما أرى اسم الإمارات على قمصان اللاعبين، فمن الجميل جداً أن نرى دول الخليج تفرض بصمتها بشكلٍ تسويقي متألق في المحافل الدولية، وعلى الرغم من أن فريقنا خسر أمام الفريق الفرنسي 3 ــ 1، فإن أجواء المباراة كانت جميلة، والجمهور الأسباني كان راقياً وملتزماً بشكلٍ عام بالقوانين، المهم لا يمكن أن أذهب إلى أسبانيا دون أن تتبادر إلى ذهني رواية «هاتف من الأندلس»، التي كانت ضمن مناهجنا أيام الثانوية العامة، فمن حقبةٍ إلى أُخرى، يُغدق الزمان علينا بشخصياتٍ فذّة تَبرع وتُبدع، تاركةً بصمةً خاصة بها، وهذا ما أسميه دائماً «بالطفرة»، ومن تلك الشخصيات الأديب علي الجارم، الذي سبق ان ذكرته في مقالات سابقة، فهذا المبدع، الذي أسهم إسهاماً لا نظير له في عالم الأدب والشعر واللغة، بتنا نفتقد أمثاله في عصرنا الحالي، لما نراه من ضياعٍ وتغريبٍ في لغتنا، نتيجة الركاكة والهشاشة في مناهجنا، والتي وللأسف تنشأ عليها أجيالنا حالياً، وبتصرف أعيد ذكر تلك الرواية، التي دوَّنها الأديب علي الجارم، والتي تقع تحت خانة الرواية التاريخية الحضارية، والتي تصف لنا جغرافية الأندلس باحتفائها بتصوير المدن والقرى والقصور والحدائق والأنهار، وهذا التصوير أشبه بالتصوير الجمالي، الذي يُغذي الجانب اللاواعي في نفس القارئ الميّال إلى الأندلس، ومن يطلع على أعمال الأديب الجارم، يدرك تماماً مكانة الأندلس وآدابها في اهتماماته الأساسية، وفي هذه الرواية تحديداً يستخدم الجارم الشكل الروائي، لإظهار وإبراز الخلفية التاريخية والحضارية لقرطبة في عهد الطوائف، وليعالج أشعار أحد موهوبيها، ألا وهو الشاعر ابن زيدون، وهنا لا بُدَّ من تقديم تعريفٍ موجزٍ عن حياة الشاعر ابن زيدون، لمن لا يعرف عنه الكثير، فقد ولد ابن زيدون في قرطبة من أسرةٍ مرموقةٍ ذات علمٍ وجاهٍ وغنى، إذ كان والدهُ من فقهاء قرطبة وأعلامها المعدودين، ونتيجةً لبراعته وعبقريته في نظم الأبيات الشعرية، تبوأ مكانةً عاليةً بين شعراء الأندلس، فأُطلق عليه لقب «بحتريّ الأندلس» لتشابه شعره مع شعر البحتري بالرقة والعذوبة وطول النفس، مثلما أظهرته أكثر قصائده في المديح والغزل، والتي أتت في أكثر أحيانها طويلة، بالإضافة إلى اهتمامه بالزخارف الشعرية، وبالعودة إلى مضمون «هاتف من الأندلس»، نجد أن الأديب الجارم حاول من خلالها إبراز المؤامرات العامة والشخصية، التي تميزت بها قرطبة في تلك الآونة، مستعرضاً بذلك التاريخ السياسي والاجتماعي لقرطبة، ومما لا شك فقد حظيت هذه الرواية بإقبالٍ كبير من قبل الباحثين والدارسين، لتحليلها على كل الصعد التاريخية والأدبية واللغوية، وهذا ما يعكس لنا العمق البلاغي والدلالي الموجود في مضمون هذه الرواية، وأكرر مرة أخرى وأنبه إلى عمق المناهج الدراسية في السابق، وما كانت تقوم عليه، مقارنةً بما نراه حالياً بين أيدي أبنائنا، لذا آمل أن يُعاد النظر في هذه المناهج، وأن نحرص على ضرورة وجود محتوى مهم ومفيد وبليغ، نحفظ من خلاله لغتنا العربية وهويتنا وثقافتنا، وأختم مقالي ببعض أبيات الشعر التي كتبها الأديب علي الجارم في جمال اللغة العربية وعظمتها في قصيدته «اللغة العربية ودار العلوم»، إذ قال:
«يا ابنة الضَّادِ أنتِ سرّ من الحُسن تجلّى على بني الإنسان
لغةُ الفنِ أنتِ والسحرِ والشعرِ ونورُ الحجا، ووحيُ الجنان».
وتسلمون.
المصدر: جريدة القبس في عددها الصادر الثلاثاء الخامس من نوفمبر 2024 (الرابط الإلكتروني).
هاتف من الأندلس - PDF