البَتلر

البَتلر أو الخادم الأمين، واليوم ما راح أتكلم عن «البَتلر» بمفهومه الوظيفي المعروف، ولن أُقلّل من قدر تلك الوظيفة، فهي وظيفة كغيرها من الوظائف لها أهميتها ومكانتها، وبتعريفٍ بسيط، «البَتلر» (Butler) في الأصل هو الخادم الشخصي الرئيسي في البيوت الكبيرة، خصوصاً في البيوت الأرستقراطية الأوروبية، والمسؤول الأول عن تنظيم شؤون المنزل، وما أود الحديث عنه في هذا المقال هو بعض التصرفات الوظيفية والتي تظهر أحياناً في العلاقة بين القيادي والموظفين، وأُكرر (البعض)، وإن كانت تلك الفئة قليلة، ومنها البَتلر أو بمعنى آخر مجازي: الموظف المتملّق أو المتزلف الذي لا يمانع من أن يجعل نفسه خادماً للمسؤول بشكلٍ مبالغ فيه لكسب الرضا، ومعه النّمام اللي ينقل الحجي ويشعل الفتن، والأراجوز أو المهرج صاحب النكتة والطرفة والتي يسخّرها ليتقرب من المسؤول ويُدخل على قلبه الوناسة، هذول الثلاثة عندهم قدرات ومهارات مو عند غيرهم، ولكن للأسف أحياناً يستعملونها كأداة للوصول للقمة أو المحافظة على موقع، وطبعاً هناك المنافقون والمتسلقون ولكنهم أقل خطورة، ولكن بعض القياديين، وكما أسلفت القلّة منهم، يفضلون هذا الثلاثي أكثر، وطبعاً أكرر مو كل قيادي يتأثر بمثل هؤلاء، ولكن صاحب «عقدة النقص» ينجذب لهم من دون إدراك، ومع الوقت يتصور له من خلالهم بأنه هو الأفضل والأسعد ويعيشونه في حالة من اللاوعي، والمسكين حيل يصدق نفسه، ويصل إلى قناعة بأن هؤلاء الأصدقاء والندماء دائمون له، فتشوفه يحرص على أن يكونوا معه برحلاته الرسمية ومرات غير الرسمية ويتواجدون بديوانه، وإذا عنده شاليه أو مزرعة تلاقيهم أول الناس عنده، هؤلاء الناس خطورتهم تتعدى العمل إلى ما هو خارج العمل، لأن القيادي يصير ما يشوف ولا يسمع إلا من خلال عيونهم وآذانهم، والقيادي المسكين اللي يبتلي بثلاثتهم بوقت واحد، وهنا تبدأ الكارثة الإدارية، أما خارج العمل فتتغيّر علاقاته ويبدأ يفقد تدريجياً ربعه وأصحابه، ويأخذ بالتعالي والترفع عنهم ويصير يشوفهم مو مهمين وسوالفهم ما تعجبه، وهم أيضاً يأخذون بالابتعاد عنه نائين بأنفسهم عن شوفة النفس، ومرات يكون القيادي عنده نزعة نرجسية وهذي بلوى بحد ذاتها، ويصير يطلع كل عقده على موظفيه، وأذكر شخصا ما يعطي الترقية لموظف قبل لا يدخله بأزمة نفسية، وبعدين يبلغه بالترقية، وكنت أقول له: «ليش هذا الفعل غير الإنساني؟» يضحك ويقول: «وناسة»، سبحان الله أذية خلق الله متعة عندهم، وبعضهم يتجاوز الوناسة إلى إضاعة حقوق الآخرين من زملائهم الموظفين اللي كرامتهم ما تسمح لهم بالتملّق والتسلّق، طبعاً أنا ما أتكلم عن شلة الفساد لأن موضوعهم مختلف، ومع تلك النوعيات وإن قلّت يُظلم الكثير من الموظفين ويدخلون بمعاناة ما لها داع وغير مبررة، وهؤلاء المرضى من القياديين يصلون إلى درجة ما يتقبلون النصيحة أو النقد، لأن الثلاثي المرح يُدركون عقدهم النرجسية فيتماشون معها ويصورون له العكس وأنه دائماً على حق علشان ما يزعل عليهم، ولكن وبنهاية المطاف ما في منصب يدوم، ومردهم يتقاعدون ويرجعون للواقع، وهناك ما راح يلاقون إلا ربعهم الأولين اللي كانوا يحبونهم ويعزّونهم لشخصهم وليس لوظيفتهم، لأن البَتلر والنمَّام والمُهرج زملاء وظيفة وظاهرة مو ربع ولا أصدقاء، ومن دون مبالغة، ثاني يوم ما راح يدرون عنك وتلاقيهم يدورون على مدير جديد يتملقون ويقدمون خدماتهم له، أما البقية من المتسلقين فخلال شهر من تركك الوظيفة العديد منهم راح يعطونك بلوك، ويسولف لي صديق ويقول إبان التسعينيات من القرن الماضي كان مع والده يزورون بالعيد ديوان صديق لوالده وكان شخصية لطيفة وحباب، ورواد ديوانه من ربعه وأصدقائه المقربين، وهذا الشخص وقع عليه الاختيار ليصبح وزيرا، ويكمل: جاء العيد وعلى العادة ذهبنا نعايد ولكن كثرة العالم والزحمة ما لقينا مصفط للسيارة، وبعد سنة ترك الوزارة. ويكمل صاحبي: رحنا له وديوانه ما فيه إلا اثنين، فالقصد من هذا المقال النصيحة لكل من يتقلد منصباً قيادياً، لا تنسَ نفسك ولا تسمح للوظيفة إنها تنسيك من أنت، فالوظيفة وإن طالت فأنت ضيف عليها، وسيأتي يوم وتطلع، لذا قُمْ بعملك واتقِ وجه الله وأحسن إلى موظفينك، وقرّب الصالح منهم، وابتعد عن خدمات البَتلر، ولا تسمع للنَّمام نقال الحجي، ولا تخلي الأراجوز يضحكك، لأن النهاية ما هي طيبة، ومن خلال ٢١ سنة من العمل في القطاع المصرفي وكذلك بالقطاع الحكومي ومثلها بالقطاع الخاص، رأيت الكثير من النماذج ورأيت الصعود والهبوط ورأيت الكثير من المعاناة والظلم، ولا يسع المقال لإعطاء أمثلة، وما لي خلق واحد يركب الموضوع على نفسه، ويقول لي أنت قاصدني، والله ماني قاصد أحد ولكن هي حالة وظيفية وطبيعة إنسانية تتكرر في كل مكان وكل زمان، فخذوا النصيحة مني، وحافظوا على ربعكم اللي يحبونكم لنفسكم لا لمنصبكم ولا مالكم، واتقوا الله بموظفينكم، لا تظلمونهم، ترى الحوبة تلحقكم ولو بعد حين.
وتسلمون.
جريدة القبس في عددها الصادر الثلاثاء الثالث عشر من مايو 2025 (الرابط الإلكتروني).
البَتلر - PDF




