ماديرا

 essay image

بعد صيفٍ طويلٍ قضيته في الكويت، قلت آخذ إجازة وأروح مكاناً غير، وسياحة من طابع آخر، وقلت أتحدى المخاوف من المرتفعات وأتحدى النفس والجسد برياضة المشي في قمم الجبال وسفوحها أو ما يُعرف بالـ«هايكنج»، وحين تهبط الطائرة في مطار «كريستيانو رونالدو» بجزيره ماديرا، يبهرك المشهد قبل أن تخطو على أرض الجزيرة، فالمطار على هضبة صخرية، ويُعتبر من أصعب المطارات في العالم لأن الجزيرة تفتقر إلى الأراضي المنبسطة، وماديرا جزيرة صغيرة تتبع البرتغال، لكنها تحظى بحكم ذاتي وإمكانات مادية متواضعة، ومع ذلك نجحت في إنجاز بنية تحتية متميزة بكل المقاييس: أكثر من مئتي نفق شُقّت في قلب الجبال وشبكة جسور تمتد بين الوهاد والقمم، وشوارع انسيابية تجعل التنقل متعة، مشاريع وفق ما سمعنا منهم نفذت قبل عقدين من الزمان، وكل ذلك في مكان مساحته أصغر من بعض محافظات الكويت. وهنا، يتسلل المقارن إلى الذهن بلا استئذان، نحن في الكويت بكل ما نملك من ثروة نفطية وموازنات هائلة، لم نستطع أن ننجز مثل هذه البنية التحتية خلال العقود السابقة، ومع ذلك، يبقى الأمل معقوداً على عهد الكويت الجديد، وسوف نشهد بأعيننا الحلم يتحقق بإذن الله والإنجازات تتحول من شعارات إلى واقع، المهم برجع لماديرا موضوع مقالنا والتي ليست مجرد أنفاق وأسفلت، إنها طبيعة خلابة حيّة تمتد ألوانها بين الأزرق والأخضر، ومناخها الاستوائي المعتدل يتراوح بين ١٦ و٢٥ درجة، فلا يرهقك حرّ ولا يجمّدك برد، والبرتغاليون حين اكتشفوها في القرن الخامس عشر لم يجدوا حيلة أمام الغابات الكثيفة سوى إشعال النار فيها لسنوات متواصلة، حتى صارت الأرض قابلة للزراعة، ومن رحم ذلك الحريق الكبير وُلدت الجزيرة الحديثة، درسٌ بليغٌ بأن الولادة أحياناً تأتي من قلب الاحتراق، وسبحان الله هناك تشابه كبير فيما بين ماديرا وجبل لبنان بضيعها ومنازلها، ويقصد الزائر مسارات الهايكنج الشهيرة مثل «بيكو دو آرييرو» و«كالديراو فيردي» حيث تسير بين الغيوم وتطل على مناظر تزرع فيك دهشة أمام لوحة كونية ساحرة، وبتلك الجزيرة مسارات متعددة لتلك الرياضة، منها بقمم الجبال ومنها بسفوحها تصلح للمغامرين والمبتدئين وللكبار والصغار شي وايد حلو ومرتب، ونكمل وبموقع آخر تصعد بالتلفريك إلى أعالي الجبل لتبدأ تجربة فريدة عمرها أكثر من مئة عام: «العربانة الخشبية»، يجلس السائح في عربة بسيطة تنزلق بسرعة كبيرة ولأكثر من ثلاثة أميال على طرق ملتوية نزولاً نحو المدينة، بينما يجرها رجلان بمهارة وضحكة لا تفارق وجهيهما، تجربة مدهشة تُشعرك أن الماضي والحاضر يلتقيان، لكنها فعلاً تخرع، لأنه لو فلت الحبل من إيد واحد منهم، فالنتيجة مأساوية، ووفق ما قرأت كانت هذه إحدى طرق النقل الغريبة من أعلى الجبل الى اسفله في ذلك التاريخ قبل أن تتحول إلى تقليد سياحي جاذب تنفرد به هذه الجزيرة، غير أن ما يميز ماديرا حقاً ليس الهندسة ولا الطبيعة فحسب، بل الناس، شعب ماديرا ودود ومؤدب، ولكن ليس بدرجة اهل لشبونة، اما الأسعار هنا فلا تُقارن بأوروبا، فماديرا أقرب إلى جيب السائح من باريس أو ميونخ، ولهذا تراها تعج بالسياح، خصوصاً من بريطانيا والولايات المتحدة، وعلى طاري السياح الأمريكان اللي تارسين الجزيرة، هناك مشهد لافت للنظر، فمعظمهم من كبار السن يتجولون مع شركاء العمر، يداً بيد، وتستطيع أن تشعر بنظرات المحبة التي لا تزال تسكن عيونهم، طبعاً هذي ملاحظات واحد حده فاضي ومريّح، ولكنه فعلاً منظر يزرع في القلب غبطة، ويفتح باب التساؤل، كيف استطاع ذلك الجيل الذي عاش ستينيات القرن الماضي، أيام البيتلز، أن يحتفظ بالعلاقة وبالمودة حتى السبعين والثمانين من العمر؟ وهنا يخرج السؤال ساخراً وحزيناً في آن واحد، شلون الوضع بيصير مع الجيل القادم؟ هل سنرى بعد عقود من الزمان أزواجاً في عمر الثمانين يمشون متشابكي الأيدي مثلما رأيت في ماديرا، أم أن هذه الظاهرة ستنقرض كما انقرضت الديناصورات؟ الجواب لا يهم بقدر ما تهم الرسالة والنصيحة، أن الصحة والمحبة رزق لا يُشترى، ومن يرزقه الله الصحة وشريك حياة يمضي معه حتى آخر العمر فقد نال أعظم الهبات.

وفي الختام، فإن ماديرا وجهة ممتازة لمن يحب الهدوء والسكينة والجو الجميل الخالي من التلوث ورياضة المشي «هايكنج»، وأعتقد أسبوعاً واحداً يكفي لتغطية كل الأنشطة، وقبل لا أختم تري الي يحب التسوق لا يروح لان ما فيها شي ينشري غير الفاكهة بأشكالها الجميلة، فتلك الجزيرة اختصاص هدوء وراحة ورياضة ولا ننس الأكل الطيب، حبيت أن أشرك القارئ الكريم ببعض ما رأيت وأحسست هناك.

وتسلمون.  

جريدة القبس في عددها الصادر الثلاثاء السابع من أكتوبر 2025 (الرابط الإلكتروني).

ماديرا  - PDF