الأخطل الصغير

essay image

بين طيات الماضي المُقدِّر للأدب وأهله، وقعت بين يدي رسالة صفراء يلفها الزمان بهالةٍ من التاريخ، كشفت لي بين سطورها عن إيمان المرحوم الوالد عبدالله العثمان بأن الشعر هو ديوان العرب وسجل مآثرهم، فلم يكن المرحوم مجرد متذوقٍ للشعر فحسب، بل كان داعماً للشعراء ومساهماً في إثراء المشهد الثقافي، الأمر الذي تجلى في تلك الرسالة التي وجهها إليه ابن الشاعر الكبير بشارة عبدالله الخوري المعروف بالأخطل الصغير، يتحدث عن ظروف والده بعد أن شارف على خريف العمر، وقبل التطرق لمضمون الرسالة لا بُدَّ من العروج قليلاً على سيرة هذا الشاعر القدير، فالشاعر بشارة الخوري من مواليد بيروت سنة 1885م، لُقب بشاعر الحب والهوى وشاعر الصبا والجمال، وهو شاعرٌ من شعراء النهضة الأدبية الحديثة ومن أبرز روادها، ومن أقدر الكتّاب الذين ردّوا للكلمة العربية نقاءها وصفاءها، حتى إنَّ العديد من الكتَّاب والشعراء اعتبروه الجسر الذهبي الذي مرّوا عليه لتأمين حاضرهم الأدبي، أما بالنسبة للقب «الأخطل» فقد نُسب إليه لتشابهِ شخصهِ مع الأخطل الكبير الشاعر الأموي غياث بن غوث التغلبي، فكما كان الأخطل الكبير عربياً مقرباً من أمير المؤمنين الأموي، كان الأخطل الصغير عربياً مقرباً من القادة العرب، فَوصف حينها بأنه صوت الشعب الفقير وصوت الحرية في الحرب العالمية الأولى، حلّق الأخطل الصغير في معظم الفنون الشعرية من الشعر الاجتماعي إلى الوطني إلى الغزلي، وأسس عام 1908م جريدة البرق، والتي كانت المكان الذي يجتمع فيه القادة السياسيون العرب، وكتب في ذلك أنَّ جامعة الدول العربية ولدت في مكاتب جريدة البرق قبل عشرات السنين من ولادتها الرسمية؛ وبالعودة إلى مضمون الرسالة (وبتصرف ) دوَّن ابن الشاعر فيها: «وإني سأنقلُ إلى الأخطل الصغير أقوالَكم عنه وإطراءَكم لشعره، وسأقولُ له بالحرف الكبير وبالحرف الواحد! إن أبا سليمان ليسَ رجل ثروة وأعمال فحسب، بل إنه رجُلُ أدبٍ وشعر، يتذوقُ ما يُكتَبُ من جَيّدٍ وإذا ما كَتَبَ يكتبُ جَيّداً جَيّداً... وسيُدْهشُ الصغير عندما سيَسْمَعُ ذلك منيّ لأننا جميعاً كنا نجهل هذه الناحية الوهّاجة في شخصية أبي سليمان؛ وستجودُ قريحةُ الأخطل أكثر ممّا جادت بالأمس... وسيكونُ الفضلُ لكم يا سيدي...»، فهذه الرسالة عزيزي القارئ تحمل بين طياتها قصةً إنسانية عميقة، تظهر من خلال العبارات والكلمات المختارة بعناية ودقة والتي تعكس الثقة التي وضعها ابن الشاعر بالمرحوم عبدالله العثمان، قائلاً: شُكراً لأبي الدراويش ملك الخير والميراث، أبي سليمان وألف شكر للكريم الذي باستطاعته أن يقومَ باختراعٍ لم يسبْقهُ إليه أحد: وهو اختراعُ «شاعرٍ غنيٍّ» أو على الأقل «شاعر غير محتاج»؛ وما يثير الاهتمام في هذه الرسالة أنها كانت نافذةً تُطل على عصر كان فيه للأدب والشعر مكانة خاصة في النفوس، وكانت العلاقات تقوم على الوفاء والمروءة، فقد كان والدي يؤمن بأن دعم الأدب والشعر ليس ترفاً فكرياً، بل هو واجب ثقافي وإنساني، كما وتكشف هذه الرسالة عن الجانب المشرق من تاريخنا الثقافي، حيث كان الشعراء والأدباء يجدون من يمد لهم يد العون دون تكلف أو منّة، واليوم، وأنا أتأمل هذه الرسالة، أدركت كم كان والدي حريصاً على دعم الثقافة والأدب، وبأن هذه الرسالة ليست مجرد ورقة قديمة حفظها الزمن، بل هي درس في القيم النبيلة والعلاقات الصادقة، لتبقى في النهاية شاهدةً على عصرٍ جميل، حيث كان للكلمة قيمة، وللشعر مكانة، ولتظل تذكرة دائمة بأن العطاء هو أنبل ما يمكن أن يتركه الإنسان من أثر في هذه الحياة، وقد لا يعلم الكثيرون ممن يستهويهم اللحن العدني بأن قصيدة «أتت هند» والتي تغنى بها العديد من مطربي الفن العدني أيام السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي هي من كلمات الأخطل الصغير، وليست من كلمات شعراء الخليج واليمن أو التراث العدني.

وتسلمون.

 

 جريدة القبس في عددها الصادر الثلاثاء العشرون من مايو 2025 (الرابط الإلكتروني).

الأخطل الصغير - PDF