مسار اللؤلؤ

essay image

في ظهيرة صيفية بحرينية، شدتني قدماي إلى قلب المحرق، ليس بحثاً عن اللؤلؤ ذاته، بل عن قصته، قصة مدينة، وتاريخ شعب، ورؤية امرأة آمنت أن الثقافة ليست ترفاً، بل هوية، وقد جاءت هذه الزيارة بدعوة كريمة من الشيخة مي بنت محمد آل خليفة، وهي دعوة لا يمكن لمن يعرف بصمتها الثقافية إلا أن يلبّيها بكل امتنان، ورافقني في هذه الرحلة حفيدي «عثمان»، لأشاركه تجربة لا تُنسى، ولأزرع في ذاكرته شيئاً من تاريخ الخليج، وفي البداية كانت لنا وقفة في مبنى جميل اطلق عليه تسميه الركن الأخضر، حيث مكتب الشيخة مي، مكانٌ يعكس شخصيتها: هادئ، محاط بحديقة جدارية جميلة، ومليء بالإيمان بأن الثقافة هي التي تُهذّب المدن وتزرع في شوارعها المعنى، وبعد هذا الاجتماع المثمر ما قصرت الشيخة مي ورتبت لنا جولة ثقافية في المحرق والمنامة للاطلاع على نتائج جهد وعمل دؤوب استمر لأكثر من 20 عاماً بلا مللٍ ولا كلل، وألخص لكم مشاهداتي حيث المقال لا يتسع، ونبدأ بمسار اللؤلؤ، ذاك الخيط غير المرئي الذي يصل البحر بالقلوب، والتاريخ بالحاضر، مسار مرتب، نظيف، منار بأعمدة ترشد الزائر بين أزقة المحرق وبيوتها العتيقة، إذ إن عشرات المنازل القديمة المتهالكة تم إنقاذها من معاول الهدم وتحويلها إلى متاحف ومراكز ثقافية تحفظ الإرث البحري، عملٌ جبار غيّر من طبوغرافية المحرق، وحوّلها إلى مركز سياحي ثقافي، مما شجّع الكثير من أصحاب المنازل هناك على صيانتها، بل وتحويل بعضها إلى مشاريع تتماشى مع روح التراث، ولا يسعني ذكر كل ما رأيت، لكنني سأختصر بما حملته الذاكرة، من بيت الغوص البسيط، حيث الملح والعرق والحلم، إلى دار المحرق للفنون الشعبية، وإلى بيت عائلة سيادي، الذي تحكي جدرانه قصة الطواويش، ثم بيت الجلاهمة، الذي تفوح من تفاصيله رائحة الذوق البحريني الأصيل، وإلى سوق القيصرية، حيث تتقاطع الذاكرة مع صخب الحياة، فالمسار لا يتوقف عند مهنة الغوص، بل يحتفي بمنظومة الحياة حولها، ومن ثم مررنا بـبيت الطبيب الشعبي بدر غلوم، ذاك الحكيم الذي عرف أسرار العلاج بالأعشاب، ومن المهم أن أذكر بيت عبدالله الزايد، أحد رواد الصحافة البحرينية، بيتٌ صغير في حجمه، كبير في صداه تماماً كما هي الصحافة حين تكون ضميراً لا مهنة، ومن بعد لـبيت غازي القصيبي الشاعر، الدبلوماسي، الإنسان، وأن يُخلّد صوت سعودي في قلب المنامة هو رسالة بأن الثقافة لا تعترف بالحدود، بل تتنفس من محيطها الخليجي، وتُضيء ما حولها، مررنا أيضاً بـمنزل الفنان محمد زويد، ذلك الصوت الذي ظل يُغني للبحر وأهله، لتبقى نغمة الوطن حاضرة، وكما أسلفت، المقال لا يتسع لذكر كل المشاريع، لكنه يتسع لذكر كيف أن دعم الشيخة مي للفنانين والمثقفين حقيقة وليس مجاملة، بل التزامٌ نبيل، وإن كان مسار اللؤلؤ قلب المشروع، فإن مهرجان المحرق الثقافي السنوي هو روحه، فعندما تتحول المدينة إلى مسرح مفتوح في ديسمبر من كل عام، تدرك أن المحرق لم تعد «منطقة قديمة»، بل عاصمة ثقافية حقيقية، فالناس يمشون، ويستمتعون، ويحتفلون وكأن التاريخ نزل من عرشه وجلس بيننا، خرجت من هذه الرحلة وأنا بمزيج من الدهشة والامتنان، دهشة من حجم التحول والتطور، وامتنان لامرأةٍ واحدة آمنت أن الثقافة تُبنى كما تُبنى البيوت: حجراً بحجر، وذكرى بذكرى، وفي نهاية الرحلة، سألت الشيخة مي، حفيدي عثمان: «وش أكثر شي أعجبك في البحرين؟» فأجابها بهدوء: «أهلها». صدق عثمان، كلمة واحدة، لكنها اختصرت كل شيء، البيوت، والموسيقى، والتاريخ، وحتى اللؤلؤ كلها جميلة، لكن الإنسان هو اللؤلؤة التي لا تُقدّر بثمن.

فكل الشكر والتقدير للشيخة مي، ولفريقها الرائع من الشابات والشبان البحرينيين الذين رافقوني في رحلة مسار اللؤلؤ، ولنا مقال قادم نتحدث فيه عن سيرة الشيخة مي بنت محمد آل خليفة سيدة الثقافة في الخليج.

وتسلمون. 

جريدة القبس في عددها الصادر السابع عشر من يونيو 2025 (الرابط الإلكتروني).

مسار اللؤلؤ - PDF