الوصيـــة الثانيـــة

تأتي الوصية الثانية التي كتبها المرحوم عبدالله العثمان و المؤرخة بتاريخ 13\11\1962 بعد ستة أعوام على كتابته للوصية الأولى. وهي لم تكتب بهدف إبطال الوصية الأولى بل جاءت تأكيداً لها من حيث أنها انبثقت من نفس الروحية والمضمون. أما الاختلاف والتعديل فيكمن في إضافة البنود وفي التراتبية والمقاربة والأسلوب الذي اتبعه المرحوم في التشديد على ما جاء في الوصية الأولى. ( وثيقة الوصية الثانية )

ابتــدأ المرحوم وصيتـه الثانيــة كما ابتدأ الأولى و إن باسلــوب مخالف. ففي الوصيـة الأولى يستهل المرحوم وصيتـه بالجانب الإيماني بذكر نص الآية الكريمة : " يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون" . أما الوصية الثانية فقد استهلها المرحوم بالأسلوب التالي :-" أوصي بما أوصى إبراهيم بنيه بنص الآية الكريمة "

ولاستهلال المرحوم وصيته بهذا الأسلوب دلالتان : الأولى أن المرحوم يؤكد على أهمية الجانب الإيماني في وصيته . أما الدلالة الثانية , و هي الأبرز "قانونياً" , فهي أن المرحوم يؤكد منذ البداية على أن الوصية الثانية لا تناقض الأولى و لا تبطلها  بل هي مكملة لها بدليل أنه رحمه الله يشير إليها فيما يتعلق بنص الآية الكريمة إذ أن الوصية التي أوصى بها إبراهيم بنيه هي ذاتها ما جاء في نص الآية الكريمة المذكورة في بداية الوصية الأولى .

بعدها يدخل المرحوم مباشرة في لب الوصية دون ترك مساحة بيضاء على الورق , كما كان عليه الحال في الوصية الأولى , ودون "هامش بلاغي"  مما يدل على الأهمية القصوى لما سيتم ذكره وهو كالتالي:" وأقول أن ثلث مالي العام تتولى عليه دائرة الأيتام في الكويت بصفتها دائرة حكومية و ذلك بالاشتراك مع الصالح من ورثتي لتنميته والإنفاق من إيراده في سبيل الخير وللمشاريع الخيرية سواء في الكويت أو في البلاد العربية والبلاد الإسلامية  "

فإن ابتدأ المرحوم وصيته الأولى بالجانب الخيري , فقد ابتدأ وصيته هذه المرة بالجانب التنظيمي فيما يتعلق بإدارة أموال الثلث لما يترتب عليه من مسئوليات وعواقب. إذ عند تحليل هذا البند من الوصية نجد أن المرحوم قد اختزل جوهر إدارة الثلث وهيكليتها في جوانبها الثلاث : صفة الوصي , صفة المشارك من الورثة , و صفة المشاركة. 

 فالوصاية على أموال الثلث هي من مسئولية دائرة الأيتام و التي لم تكن قد تحولت بعد إلى هيئة حكومية مستقلة مما يدل على ما تمتع به المرحوم من بعد نظر و استشراف للمستقبل. أما الهدف من إضفاء الصفة الحكومية على الدائرة فهي للتأكيد على ارتباط دائرة الأيتام ارتباطاً كلياً بالحكومة و بالتالي خضوعها للدولة وقوانينها ومسئوليتها في المراقبة والمحاسبة مما من شأنه أن يحمي أموال الثلث من سوء استغلال الأفراد العاملين في الإدارة و الورثة على حد سواء , أو في أسوأ الأحوال يحد من عمليات الالتفاف الغير مشروع على بنود الوصية و الثلث . وعلى الرغم من ائتمان المرحوم دائرة الأيتام على أموال الثلث ألا أنه لم يترك لها حرية القرار المطلق إذ اشترط رحمه الله مشاركة " الصالح " من ورثته في اتخاذ القرار.

 وهنا أيضاً يضفي المرحوم صفة "الصالح" على من يحق له المشاركة من ورثته مما يترتب عليه وضع معاييرو ضوابط خاصة لا بد للوريث من تحقيقها حتى يكون مؤهلاً للمشاركة في إدارة الثلث. وبهذا يحقق المرحوم هدفاً أساسياً وهو تأسيس نظام محاسبي من أفراد صالحين من الطرفين قادرين على حماية حقوق الورثة وحمل أعباء تنفيذ الوصية مما من شأنه أن يحافظ على نزاهة الإدارة و قراراتها و محاسبة المقصرين فيها ومواجهة ما يطرأ فيها من فساد وأطماع .وقد شهد تاريخ إدارة الوصية محاولة التفاف على مضمونها من قبل دائرة الأيتام بقيادة مديرها السابق/خالد يوسف المطوع وذلك بالرجوع إلى جامع الأزهر للحصول على فتوى تقضي بإبطال حق الورثة بالاستفادة من إيراد الثلث تحت حجة أن لا وصية لوارث. إلا أن نزاهة القضاء الكويتي وعدالته قد صان الوصية برفض تلك الدعوى فحكم بموجبه هذا الحكم بالنص التالي : ( نص الحكم )

" ولكن هذه الفتوى طلعت علينا بأن الوصية لا ترد إلى الورثة فهي لا تصل إلى الورثة بطريق الوصية , ولا تصل إليهم بطريق الميراث و هكذا قررت الحرمان من الميراث و أتت بحكم لايعرفه أئمة المسلمين , وهل يمكن الاعتذار ؟ نعم , ولا:  فإنه في نفي علم الورثة بالوصية قد يعتذر عن لجنة الفتوى في الأزهر بقول الحريري لقاضي الرملة:فقبلك شيخ الأشعرين قد خدع ..و ما وراء ذلك عليه ظلال  ..  لا تحل بواديها المعاذير  "

ومن الظلم بمكان أن نقصر محاولات الالتفاف على الوصية بدائرة الأيتام فقط, إذ في نفس الوقت و خلال الأربعين عاماً الماضية كان للورثة دور كبير أيضاً في محاولات الالتفاف على الوصية و الاستفادة منها من دون الآخرين و دون وجه حق. إلا أن وجود رقابة الهيئة العامة لشئون القصر إلى جانب القضاء الكويتي العادل قد حال دون ذلك. وبهذا يتضح بأن كلا الطرفين خلال الأربعين عاماً الماضية كانا في شد وجذب كل يحاول أن يجير الثلث لصالحه وكان ناتج هذا النزاع تعطل العمل الخيري وأعمال الوصية لأعوام طوال. ولو قرأ كل طرف الوصية بإمعان وخاصة الآية الكريمة التي ختم بها المرحوم وصيته الثانية لعم الخير على الجميع. فتلك الوصية لا تستقيم إلا باتفاق الطرفين.وبنظرة تاريخية وجيزة نرى أن كافة المشاريع التي تمت ونفذت جاءت نتيجة العمل المشترك الدءوب القائم على النوايا الصالحة بين الطرفين. فلا يفوز في سبق الخيلِ خيلٌ بلا خيال و لاخيالٌ بلا خيل .

وبعد أربعين عاماً من المحاولات الحثيثة تحقق هدف المرحوم و كان له ما أراد فتم تشكيل لجنة خاصة لإدارة وتنمية الثلث تحت مسمى (لجنة أوصياء إدارة وتنمية ثلث المرحوم/عبدالله عبداللطيف العثمان) وهي لجنة مكونة من أعضاء من موظفي الهيئة العامة لشئون القصر وأعضاء من ورثته. وهنا نجد أن تشكيل اللجنة وعملها جسدا صفة الجانب الثالث من التنظيم الإداري الذي أوصى به المرحوم ألا وهي صفة المشاركة. إذ حدد المرحوم صلاحيات المشاركة من جانب الورثة فيما يتعلق بالتنمية فقط دون الوصاية. أي أن للورثة حق المشاركة في القرار دون أن تكون لهم حرية التصرف بوضع اليد على المال ذاته. من هنا نجد أن ما كان من هذا التوزيع الحكيم للسلطة بين الأطراف المعنية إلا أن حقق التوازن ورسخ هيكلية المحاسبة الإدارية مما ساهم في الحفاظ على مضمون الوصية من حيث تأمين حقوق الورثة من جهة و تنمية أموال الثلث من جهة أخرى .وللدلالة على مدى دقة المرحوم و فاعلية النظام الإداري الذي سعى إلى تحقيقه لا بد من تسليط الضوء على نقطة بالغة الأهمية و هي أن مبدأ توزيع سلطة القرار بين كل من الطرفين دائرة الأيتام و الورثة يحاكي في الفكر و المنهج مبدأ توزيع السلطات المقر في الدستور الأمريكي والمعروف بـ"checks and balances" أي " التحقق والتوازن ".

ويعتبر هذا المبدأ الذي يعرف أيضاً بـ"separation of powers" أي "فصل القوى" من أهم المبادئ الدستورية التي قامت عليها الديموقراطية الأمريكية اذ اعتبر الضامن الحقيقي لحماية الحقوق و منع قيام أي شكل من أشكال الحكم الديكتاتوري أو السلطوي . ويتمثل هذا المبدأ بتوزيع صلاحيات السلطة على ثلاثة أفرع : الفرع التشريعي متمثلاً بالكونغرس , الفرع التنفيذي متمثلاً في الرئاسة و الفرع القضائي متمثلاً بالمحكمة العليا. ولا يكتفي هذا المبدأ بتوزيع القوى على الأفرع الثلاث انما يشتمل أيضاً على منح كل فرع الصلاحيات المناسبة لمحاسبة كلا الفرعين الآخرين بهدف الحد من محاولة أي فرع الاستئثار بعملية اتخاذ القرار. وعليه لا يستقيم الحكم إلا بتحقيق التوازن المطلوب وفرض العمل التعاوني وروح التفاهم بين أطراف الحكم الثلاث .وفي العودة إلى الوصية نجد أن مفتاح تنفيذها دون تعطيل أو مواربة يكمن في العمل بمبدأ "التحقق والتوازن". إذ لا بد للطرفين من أن يتمتعا بالصلاحية واستيفاء شروطها على ما نصت عليه الوصية كل حسب موقعه. وعليه فالخيار الوحيد أمام الطرفين هو إرساء سبل التفاهم والتعاون والعمل المتكامل بغية تحقيق الهدف المشترك و هو تجسيد رؤية عبدالله العثمان الخيرية على أرض الواقع.

 " وينفق من أصل الثلث – تكميل بناء الجامع في دمشق حي المزرعة حسب خرائطه المتفق عليها مع المهندس خليل الفرا في الشام لا ينقص منها شيء ثم يبنى مستوصف وسط الأرض وهذا ما لم تعمل خرائطه حتى الآن – ثم يبنى بناية في نفس الأرض التابعة للجامع و يكون إيراد هذه البناية ينفق على مصلحة الجامع والمستوصف تحت مراقبة وزارة الأوقاف في الشام وتتولى هذه الإدارة لجنة من قبل أوقاف الشام ولا ينفق هذا الإيراد على شيء سوى الجامع والمستوصف من الأوقاف الهامة هناك – وكذلك البناية تكون تابعة للجامع و المستوصف المذكورين وكذلك يخصص مبلغ مائتين وخمسين ألف ليرة – لبناء جامع في بلدة شانية في لبنان – كذلك بناء جامع في خيطان وجامع في العقيلة بالكويت."

وبعدما أسس المرحوم للجانب الإداري المالي انتقل رحمه الله إلى الجانب الخيري حيث عمم المرحوم سبل الإنفاق من إيراد الثلث في "سبل الخير والمشاريع الخيرية سواء في الكويت أو في البلاد العربية والبلاد الإسلامية ". ولم يكتف المرحوم بالتعميم فأشار إلى عدة مشاريع بعينها و أوصى بتنفيذها. أولى تلك المشاريع تكملة بناء جامع في دمشق في حي المزرعة حسب الخرائط المتفقة عليها واشترط رحمه الله أن لا ينقص فيها شيء. كما أضاف إلى المشروع مستوصف في وسط هذه الأرض و عمارة ينفق من إيرادها على الجامع و المستوصف. وأوصى المرحوم أن تتتولى الإدارة لجنة من قبل أوقاف الشام مؤكداً مرة أخرى أن الإنفاق من الإيراد مقصور على الجامع والمستوصف. وقد توفي المرحوم قبل اكتمال الجامع إلا أن البناء استمر من قبل الهيئة العامة لشئون القصر. وقد تكلف المشروع حوالي خمسة ملايين دينار كويتي وسلم للأوقاف السورية التي جعلت من العمارة ذات العشرة أدوار مقراً لوزارة الأوقاف السورية. إلا أننا نعتقد و للأسف أن الأوقاف السورية قد أخلت بتنفيذ بنود الوصية على الرغم من كل المحاولات التي تمت من قبل الهيئة العامة لشئون القصر والورثة لإعادة مسيرة تنفيذ الوصية فيما يتعلق بأوقاف المرحوم في سوريا إلى مسارها الصحيح.هذا وقد أضاف المرحوم عبدالله العثمان إلى وصيته وقفاً بمئتين و خمسين ألف ليرة لبناء جامع في بلدة شانيه في لبنان. وبلدة شانيه منطقة جبلية لا تبعد عن منطقة بحمدون حيث موقع مسجد المرحوم سوى عدة كيلو مترات , إلا أن الأوضاع المتأزمة في لبنان منذ زمن طويل حال دون تنفيذ هذا الشق من الوصية على الرغم من أن المبلغ المستثمر من قبل الهيئة العامة لشئون القصر قد تضاعفت قيمته خلال تلك السنوات و جاري الآن و بالتنسيق مع بيت الزكاة الكويتي إيجاد آلية لتنفيذ هذا الشق من الوصية. وكذلك أوصى المرحوم ببناء جامع في خيطان وجامع في العقيلة في الكويت , وقد تم والحمد لله تنفيذ بناء تلك الجوامع.

"ويعطى من أصل الثلث مائة ألف روبية للأخت طرابه ومثلها للأخت موضي ومثلها للأخت شيخة ومثلها للأخت سارة و مثلها للأخت لطيفة بنات الوالد عبداللطيف العثمان ويعطى الأخ محمد من أصل الثلث خمسمائة ألف روبية ومثلها للأخ عثمان – أو لورثة الإخوان والأخوات المذكورين إذا قدر الله عليهم الوفاة والأرحام هم أولى بالمعروف من إيراد الثلث و يعطى المحتاج من أولادي وبناتي إن قدر الله عليهم الإعسار وكذلك أولادهم لا يحرمون من إيراد الثلث أو من الثلث ويصح لمن يكون رشيداً من أولادي وصالحاً أن يخصص له قسم من الثلث للاتجار فيه إذا صح صلاحه وصحت أمانته "

 وقد أكد عبدالله العثمان في وصيته على البر بالأرحام فأوصى إلى كافة إخوانه  وأخواته (ولورثتهم في حال الوفاة) مبلغاً كبيراً من المال يؤخذ من أصل الثلث. وكذلك حرص المرحوم على أن يبر بطليقاته أمهات أبنائه فأوصى لهن مبلغاً كبيراً من المال ييسر عليهن أمور معيشتهن وحياتهن. ولم يقتصر المرحوم في بره للأرحام على درجة القربى الوثيقة بل ضمنها كل من يتصل به من الأرحام بقربى بعيدة كانت أو قريبة فأوصى لهم من إيراد الثلث. وكان من حكمة المرحوم أن عمل على استمرارية الوقف للورثة من ذريته و ذلك من خلال ذكر أحقية الأحفاد في إيراد الثلث وأصل الثلث.وكما كان ديدنه في الحياة حرص المرحوم على أن لا يضام أبناؤه من أولاد وبنات من بعد أبيهم فشدد على أن "يعطى المحتاج من أولادي وبناتي إن قدر الله عليهم الإعسار". ولا يختلف هذا النظام في جوهره عن نظام التأمين الاجتماعي وحساب التقاعد إذ جعل لكل فرد من الورثة نصيباً في إيراد الثلث يوضع في حسابه بشكل دوري. وفي حال الحاجة والإعسار يؤمن عليه بما يكفي لتغطية نفقات خروجه من عسرته .

أما في حال الاتجار, فقد شدد المرحوم على شرط الصلاح. ومن وجهة نظرنا الشخصية والتي قد يجانبها الصواب, يلاحظ بأن الاتجار ليس بالأمر الهين إذ أنه يتعلق بحقوق العباد من ورثة وتجار وعملاء, مما حدا بالمرحوم إلى أن يستخدم لفظ "يصح" فهي غير واجبة من جهة و ملزمة من جهة أخرى. فترك الموضوع لحساسيته لتقدير الوصي والظروف الآنية إلا أنه رحمه الله حرص على أن يؤطر الموضوع بالشروط الواجبة على المستحق. فاشترط على من يصح له الاتجار من ورثته أن يكون رشيداً وصالحاً وهما صفتان تحمل كل منهما في طياتها الكثير من المعايير الواجبة تحقيقها و مراعاتها مما من شأنه أن يقنن عملية المتاجرة بأموال الثلث على يد الورثة فلا يضحى باباً يسهل طرقه كلما رغب أحد الورثة في خوض غمار التجارة وتقلباتها مما يؤدي إلى ضياع أموال الثلث وبالتالي ضياع إرث المرحوم. هذا ويعد نظام لجنة الأوصياء هو النظام الأمثل فيما يتعلق بالمتاجرة بأموال الثلث. فعندما تستثمر اللجنة أموال الثلث في التجارة فإنما هي تعمل ضمن ضوابط محددة وتحت رقابة الهيئة العامة لشئون القصر مما من شأنه أن يحقق هدف المرحوم في تنمية أموال الثلث وضمان حقوق الورثة.   

وفي النهاية ختم المرحوم عبدالله العثمان وصيته كما استهلها و ذلك بذكر الآية القرآنية الكريمة :﴿ فمن بدله من بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه و الله سميع عليم ﴾وقد قصد المرحوم بذكر هذه الآية الكريمة تحميل المسئولية لأصحابها والتنذير بالإثم لكل من يسعى إلى تبديل بنود الوصية والالتفاف على مضمونها. فعبدالله العثمان لم يأتمن أحداً من البشر على الوصية بل ائتمن رب البشر فهو عز وجل الحسيب والرقيب والعليم .