قصف الجبهات

essay image

بعد رحلتنا الممتعة بالمقال السابق في كتاب «كن جميلاً» للكاتب والصديق المتميز محمد الفارس، والتي استمتعنا فيها بحكم ومعانٍ عميقة تلامس القلب قبل العقل، نستكمل اليوم «وبتصرف» رحلتنا الثقافية مع الكتاب الثاني وهو بعنوان «قصف الجبهات من روائع الإجابات»؛ في الواقع ومنذ اللحظة الأولى التي استلمت فيها الكتاب، أثار العنوان فضولي وشد انتباهي لما يحمله من إجابات قوية ومؤثرة تشبه في قوتها «قصف الجبهات»، وأبدأ بالمقدمة التي يوضح فيها الكاتب دوافع إصداره لهذا العمل والتي لم تأتِ من باب للتسلية أو التنمر، بل لهدف أنبل وأعمق، فقد جعل هذا الكتاب مرجعاً للمواقف الحرجة، ومناسباً لتعلم الردود والدفاع عن النفس دون ظلم أو تعدٍّ على الآخرين، موضحاً ذلك بحكمة تاريخية يقول فيها العالم جلال الدين السيوطي رحمه الله: «واعلم أنه ما كان كبير في عصر قط إلا وكان له عدو من السفلة، فإن الأشراف لم تزل تُبتلى بالأطراف. فكان لآدم عليه السلام إبليس، وكان لنوح حام، وكان لموسى فرعون، وهكذا إلى محمد ﷺ فكان له أبو جهل»، هذا القول العميق يلخص لنا حقيقة إنسانية مهمة، مفادها أن العظماء والمتميزين في كل عصر لا بد أن يواجهوا من يحاول النيل منهم أو التقليل من شأنهم، ويستكمل بوفلاح كتابه بمجموعة ثرية من الحكم والمقولات التي تنير دروب النفوس وتعلم فن التعامل مع المواقف الصعبة، من أجملها: إذا أنت لم تشرب مراراً على القذى، ظمئت، وأي الناس تصفو مشاربه؟! «وهي حكمة تحمل معنى عميقاً في ضرورة التعامل مع صعوبات الحياة ومرارتها بصبر وحكمة، ومن الحكم أيضاً» لا راحة لحسود، ولا وفاء لبخيل، ولا صديق لملول، ولا مروءة لكذوب، ولا رأي للخائن، ولا سؤدد لسيء الخلق.، ولا بُدَّ من الإشارة إلى أن هذا العمل ينقسم إلى عدة أقسام متنوعة ومدروسة، تغطي جوانب مختلفة من فن الرد والمحاورة، كالردود الفكاهية التي تحمل طابع الطرافة والخفة مع الحفاظ على الأدب والاحترام، ورد السؤال بالسؤال والذي يعلمنا فن الرد الحضاري، من خلال مجموعة من النماذج العملية للتعامل مع الأسئلة المحرجة أو الاستفزازية بأسلوب راقٍ، والردود المُسكتة، والردود الذكية التي تمثل قمة الفن في التعامل مع المواقف الصعبة، ومنها أذكر ما ورد: «ما معنى أن يجيبك الشخص إجابة دبلوماسية: هو أن يجيبك وفي الأصل لم يجبك! كالمثل الشعبي الذي يقول: يوردك الماء ولا يدعك تشرب».

ومن الأمثلة أيضاً: «كنت ماشياً في طريقي فرأيت أخوين متخاصمين، فقال الأخ الأصغر لأخيه: والله لأهجونك. فقال له أخوه: كيف تهجوني وأبي أبوك وأمي أمك، فإن هجوتني سيرتد الهجاء على أبينا وأمنا وعليك؟ فقال له سأقول: لئيمٌ أتاه اللؤم من ذات نفسه ولم يأتِه من إرثِ أمٍ ولا أبٍ (الأصمعي).

إن هذا التنوع في المواضيع والأساليب جعل من كتاب «قصف الجبهات من روائع الإجابات» دليلاً لكل من يريد أن يتعلم فن الرد الحضاري والدفاع عن النفس بطريقة راقية ومؤثرة، دون الحاجة للنزول عن مستوى الأدب والأخلاق الحميدة، وفي الختام كل الشكر لبوفلاح على هذا الإهداء الجميل.

وتسلمون.

جريدة القبس في عددها الصادر السادس والعشرون من أغسطس 2025 (الرابط الإلكتروني).

قصف الجبهات - PDF