«حبابين البيزة»
في مقالٍ سابق تطرقت لمفهوم «المرجلة»، وكيف اختلف هذا المفهوم، وتغّيرت معالمه من جيلٍ إلى جيل، وصولاً إلى الأجيال الناشئة حالياً، والتي باتت ترى في المرجلة أنها تلك القوة والسطوة على الآخرين وبناء العضلات والشارب واللحية، ومن المفاهيم التي بدأت تأخذ منحنى آخر في التفسير والبُعد عن المعنى الحقيقي كلمة «الكرم»، فالكرم من الفضائل الأخلاقية، التي باتت تجنح عند الكثير من الأشخاص، إما باتجاه الإسراف، وإما باتجاه البخل، وفي كلتا الحالتين الوضع مأساوي، والحل الأمثل يكمُن في الوسطية بين الأمرين، فلا تجنح نحو الإسراف، ولا نحو البخل والشّح، فالفضيلة سُميت فضيلةً لوقوعها في الوسط بين رذيلتين، كفضيلة الشجاعة التي تقع بين الجبن والتهور، وفضيلة الطموح التي تقع بين الخمول والطمع، وهذا ما بتنا نراه في مجتمعاتنا، فالجشع والطمع ملآ قلوب وعقول الكثيرين، فالكرم بمفهومه الوسطي المعتدل مطلوبٌ، ولكن دون إسراف، وبالإنفاق المعتدل، لكي لا يأتي يوم لا شيء عندك فيه، فتقعد ملوماً محسوراً، مثلما ورد في القرآن الكريم: «ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسورا»، والكرم بمفهومه العام لا يعني الكرم في المال والمادة فقط، إنما هو بمنح الآخر أكثر الأشياء حباً وقيمةً لديك، وقد تكون أموراً معنوية، الأمر المرتبط أيضاً بعدم انتظار الشكر والثناء من الآخر، وبعدم التباهي والمفاخرة بعطائك، إنما يجب أن يكون هذا العطاء نابعاً من الرغبة في إرضاء الله تعالى أولاً وآخراً، والأمر المناقض تماماً للبخلاء، أو ما يُطلق عليهم بـ«حبابين البيزة»، أولئك الذين كتب الجاحظ فيهم كتاباً لنوادرهم أسماه «البخلاء»، وأقتبس من تلك النوادر هذه القصة المُختصرة: «يروي الجاحظ أنّ جماعة من أهل خراسان ترافقوا في منزل، وصبروا على الظلمة ما أمكنهم الصبر، حتى اتفقوا على أن يدفع كل واحد منهم مقداراً من المال للإنارة بعد أن نفد صبرهم، إلّا أنّ واحداً منهم أبى أن يشاركهم ويعينهم على ذلك، فكانوا إذا جاء المصباح شدّوا عينيه بمنديل، لكي لا يستفيد من النور، وعندما ينامون ويطفئون المصباح يطلقون عينيه». وتستحضرني قصة سمعتها من والدتي إبان الطفولة، تقول فيها إن هناك رجلاً بخيلاً، وله زوجة صابرة، ولكن بها من السذاجة الكثير، وصاحبنا كل يوم يدخل البيت ومعاه بعض المال يُخبئهُ في صندوق، وكلما طلبت منه زوجته القليل من ذلك المال، يقول لها: هذا حقّ رمضان نجمعه من الآن له، وبعد فترة طرق الباب فقير يطلب مساعدة، فسألته الزوجة: من أنت؟ فأجاب: أنا رمضان، فاستانست الزوجة وأخذت الصندوق وأعطته للفقير، وقالت له: يا رمضان خذ رزقك، وعند عودة الزوج لم يجد صندوقه، وعندما سأل عنه، أجابته: الحمدلله رمضان خذ حقه، فأضحى مثلاً إلى أين سوف تؤول أموال البخيل، ومن ذلك نقول بعاميتنا: «مال البخيل ياكله العيار»، فالبخل أيها الأعزاء آفةٌ اجتماعيةٌ ذميمةٌ في الشرائع والمجتمعات، لِما تترتب عليها من آثار نفسية واجتماعية سلبية على الفرد وعلى محيطه، ولعل أول من يُعاني من تلك الآثار الأسرة الصغيرة المحيطة بالبخيل، كالزوجة والأبناء، ومن ثم تتسع الدائرة لتصل إلى المحيط الاجتماعي، مما يجعل منه شخصاً مكروهاً منبوذاً، ولا بُدَّ من الإشارة إلى أن مجتمع «حبابين البيزة» يتكون من درجات، لدرجة أن بعض البخلاء ينتقدون من هم أشد بخلاً منهم، ولا بُدَّ أيضاً من التفرقة بين البخل والشّح، فالأول يبخل على الآخرين، ويعيش صراعاً بين البخل والحرص، والثاني يبخل على نفسه وعلى الآخرين، إذ إن الإنفاق النابع من كرم النفس من الأمور الجليلة القدر والكثيرة النفع، الأمر الذي يستصعب البخيل استيعابه، فالبخل ليس فقط المتعلق في المال، بل هناك ما هو أسوأ من ذلك، فمنهم من يبخل بالنصيحة، وآخرون بالكلمة الطيبة والابتسامة، والبعض، وكما أسلفنا، يلحق عطاياه بالمنة، تصرفاتٌ ليس لها داعٍ، تُضيع الأجر وفرحة الهدية، وتدخل الندم في قلب من تسلّمها. وكما يقول والدي في أشعاره: «إنما المَنّ كحرقٍ للشجر»، وحيث إن هذا المقال هو الأول في العام الجديد أُهدي هذا المقال للكرماء والبخلاء، فنقول للكرماء هنيئاً لكم وكونوا وسطاً، وللبخلاء هي فرصة أن نُقيّم أنفسنا، وأن تكون هذه المقالة مرآة لنا، فنرى أنفسنا من الخارج لتحسين ذواتنا للأفضل، وأطيب التمنيات لكم قراءنا الأعزاء، وكل عامٍ وأنتم بخير، ولندعُ الله جميعاً أن تكون السنة الجديدة سنة خير وبركة علينا وعلى وطننا الحبيب.
وتسلمون.
المصدر: جريدة القبس في عددها الصادر الجمعة الخامس من يناير 2024 (الرابط الإلكتروني).
«حبابين البيزة» - PDF