سيدة الثقافة في الخليج

essay image

بعد رحلتي الأخيرة إلى المحرّق في دولة البحرين الشقيقة، وبعدما جُلت بين بيوتها العتيقة، وشهدت بعيني التحول الثقافي الذي لمسته على الأرض، جلست أقلّب صفحات كتاب «بدايات حكايات وتقاطعات» من تأليف الشيخة مي بنت محمد آل خليفة، وكنت أظن أنني أعرف المحرّق بما يكفي، لكنني أدركت مع كل صفحة أنني لم أكن أعلم إلا القليل، إذ لم يكن الكتاب مجرد تأريخ لمشروعات أو توثيق لمسيرة، بل كان أقرب إلى بوحٍ ثقافيّ، كتبته امرأة نذرت حياتها لإعادة الاعتبار لذاكرة المكان، ولصناعة تنمية تستمد قوتها من التراث، وبين أسطر هذا الكتاب وجدت ملامح الشيخة كما عرفناها: المثقفة والملهمة وصاحبة المشروع المتكامل في الحفاظ على التراث الثقافي البحريني، لذا ارتأيت أن أخصص هذا المقال «وبتصرف» للحديث عن سيرة هذه السيدة التي لا يمكن اختزالها في منصب أو لقب، بل تُروى من خلال أثرها ومشروعاتها وأحلامها التي جعلتها واحدة من أبرز الأسماء الثقافية في الخليج والعالم العربي، والشيخة مي كاتبة وباحثة في مجال التاريخ، وتمتلك مشروعاً فكرياً أصيلاً في توثيق الذاكرة البحرينية وإعادة قراءة التاريخ من زاوية جديدة، منذ التسعينيات وهي تكتب وتُنقّب وتُعيد الاعتبار لوقائع وشخصيات وأماكن طُمست طويلاً، بلغة جمعت بين الجدية البحثية الأكاديمية والنبض الإنساني، وبالاطلاع على مسيرتها الأكاديمية، فقد تخرجت الشيخة مي في الأدب الإنكليزي ومن ثم حصلت على الماجستير في التاريخ السياسي من جامعة شيفلد بالمملكة المتحدة، وهذا المزيج بين الأدب والتاريخ ميّزها بتكوينٍ معرفي خاص، وجّهت عنايتها من خلاله لتاريخ البحرين الاجتماعي والسياسي والثقافي، وعن مسيرتها الرسمية فقد تقلدت الشيخة مي عدداً من المناصب البارزة من أبرزها: منصب الوكيلة المساعدة للثقافة والتراث الوطني، ومنصب وزيرة الثقافة والإعلام ومن ثم رئيسة لهيئة البحرين للثقافة والآثار، وما ميّز وجودها في هذه المناصب أنها لم تكن موظفة حكومية تقليدية، إنما صاحبة رؤية ومشروع عملت من خلاله على تحويل الثقافة من مجرد شعار إلى ممارسة في الميدان، كما وعملت على تأسيس وإدارة مركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة للثقافة والبحوث والذي أصبح من أنشط المؤسسات الثقافية الخليجية غير الحكومية، ابتكرت من خلاله عشرات البيوت الثقافية والفنية، كبيت عبدالله الزايد لتراث البحرين الصحافي وبيت محمد بن فارس لفن الصوت وبيت التراث المعماري وبيت النوخذة وغيرها من البيوت التي أسهمت في تحويل المحرق من مدينة مهملة عمرانياً إلى مدينة ثقافية نابضة بالحياة، وللشيخة العديد من العضويات البارزة من بينها، رئيسة مجلس مركز مشاركة المرأة العربية، وعضوة فخرية بجمعية تاريخ وآثار البحرين، أما في مجال التأليف فقد أصدرت الشيخة مي عدداً من الكتب المهمة أذكر منها، كتاب محمد بن خليفة الأسطورة والتاريخ الموازي، وكتاب مئة عام من التعليم النظامي في البحرين، وكتاب القرامطة من فكرة إلى دولة.

وختاماً.. أقول: لا يمكن للكلمات أن تحيط بما حققته الشيخة مي، فهي ليست مجرد شخصية ثقافية أو مؤرخة موهوبة، بل إنسانة آمنت بأن الثقافة هي الجسر الذي يربط الماضي بالحاضر، وأن الهوية ليست مجرد موروث نحتفظ به في أدراج الماضي أو في الذاكرة وإنما نسيج حي من القيم والتقاليد والممارسات التي تشكل وعي الفرد ووجدان المجتمع وتمنحه بوصلته الحضارية، لذا آمل من خلال هذا المقال وكما أسلفت «بتصرف» أن أكون قد سلطت الضوء على نموذج إنساني ثقافي من خلال سرد جزء من تجربة وإنجاز شخصية خليجية نعتز بها جميعاً.

وتسلمون.

جريدة القبس في عددها الصادر الخامس عشر من يوليو 2025 (الرابط الإلكتروني).

سيدة الثقافة في الخليج - PDF