متلازمة البعثات الخارجية (الاستقطاب 1)

essay image

في تلك السنة، وبعد ما خلصت أوراق البعثة إلى أمريكا، وأذكر أن ذلك كان في سبتمبر ١٩٧٥، أذكر طق جرس الباب، ونزلت أشوف منو، وكان هناك ثلاثة شباب كويتيين سلموا عليّ، وقالوا لي: عرفنا انك رايح أمريكا، وقلنا نتعرّف عليك ونعطيك تلفونات بعض الربع هناك، اتصل عليهم وهم يساعدونك، الأسماء والتلفونات ما زالت معي بأرشيفي، وحاولت أحصّل تلك الوريقة، بس ما استدليت عليها، يمكن بين صفحات أحد الكتب، المهم تشكرت منهم، بس ما دري شلون عرفوا أنا رايح وش دلاهم على بيتنا، الوزارة في ذلك التاريخ تقوم بالواجب صح، قسمت كل الطلبة على مجموعات، ورتبت حجز الطيارة وأوتيل الترانزيت في لندن، وأمنت وصول المجموعة بالكامل إلى أحد أوتيلات واشنطن العاصمة، ويمكن عددنا كان ٢٥ طالباً، ولا يزال عندي صور وفيلم سينمائي (8mm) وثقت فيها تلك الرحلة، المهم ثاني يوم كان لقاؤنا مع الملحق الثقافي، وللأسف ما أذكر اسمه، ولكن أيضاً ما قصَّر بالنصائح وسعة الصدر في الإجابة على أسئلتنا، وقسمنا إلى مجموعات، وكل مجموعة رتب لها التذاكر والسكن والتسجيل بالجامعة، طبعاً أول سمستر كان لغة، ومن طرائف ما سمعت من بعض الطلبة: واحد منهم كان مُصر يروح ولاية متشيغان، فسأله الملحق: وليش تبي متشيغان؟ قال: جوها دافي وأنا مو جايب معاي هدوم شتوية، ضحك الملحق وقال له: يا ابني، متشيغان باردة وشتاؤها قاسٍ! فسأله: من مدحها لك؟ رد عليه: في ربع هناك قالوا لي تعال عندنا، خوش ولاية، وطبعاً في واحد ثاني كملها عدل، بس خلانا كلنا نضحك، لأنه كان مُصر يروح ولاية كنتاكي، ولما سأله الملحق: ليش كنتاكي؟ قال له: فيه ربع امدحوا الولاية، وقالوا إن فيها دجاج كنتاكي، وأنا أحب الدجاج، رد الملحق وقال لنا: ما لكم شغل بربعكم، كل مجموعة تروح للولاية والجامعة المخصصة لها، وركزوا على دراستكم، واتركوا عنكم التجمعات والكلام اللي ما يفيد، الصراحة في ذلك الوقت أنا ما ربطت بين الجماعة اللي مروا عليّ ونصحوني وين أروح ومين أكلم وجماعة متشيغان وكنتاكي، المهم كان حظي بجامعة جنوب إلينوي، في مدينة جامعية صغيرة اسمها كاربونديل، وبترك ١٩٧٥ تجربة اللغة وإخوانا العرب هناك لمقال قادم، ونرجع إلى موضوعنا اليوم، واللي أعتقد أنه يهم كل الطلبة المبتعثين وأولياء أمورهم، ففعلاً جميل أن الطالب يروح مع ربعه، ويعيش ويتعايش مع مجتمعه، ويحافظ على دينه وقيمه، ولكن دون التقوقع على النفس، وحصر نشاطه بمحيط ضيق، والأخطر إن كان ذلك المحيط مُسيساً، وخلوني أشرح أكثر، يوم ما طلعت من الكويت، وحالي حال معظم الطلبة معاي في الثانوية، ما نعرف إخوان ولا سلف ولا تيارات قومية أو ليبرالية، الحمدلله كنا ملتزمين كما تربينا، ولكن بعد سنة اتضحت لي قوى الاستقطاب، والتي كانت على أشدها بين السلف والإخوان، وكان الإخوان أكثر تنظيماً واستحواذاً على الطلبة، وأذكر مقرهم الرئيسي في مدينة ورشستر بولاية ماساتشوسيتس، وهناك كان «بيت الأرقم»، الجماعة مأجرين بيت كبير يستقطب عادة الطلبة الجدد، ويمكن العدد فيه يزيد أحياناً على ٣٠ طالباً، وتصدر من هناك مجلة الأمل، التي تمثل الإخوان، أما السلف فكان مقرهم الرئيسي في هوبوكين بولاية نيوجيرسي، وكذلك يمتد نشاطهم بسيراكيوز وبافالو، وتصدر لهم مجلة الهجرة، وبشكل عام وللأمانة، الجميع خلوقين وخدومين وما عليهم خلاف، ولكن الخلاف، الذي يستعر أحياناً بينهم على أمور، شخصياً، ما كنت أفهمها، وقد تكون في ظاهرها ليست ذات قيمة تستحق الخلاف، إلى أن استوعبت أن الخلاف يبدأ بالكويت، ويمتد إلى قواعدهم بأمريكا، بعدها استوعبت أكثر أن كل التيارات الدينية والليبرالية تتسابق لاستقطاب الطلبة لأهداف سياسية انتخابية مستقبلية، ويمكن قراري بأخذ الحياد وعدم الانصياع إلى أي أفكار ذات طابع سياسي، وإن كانت بقالب ديني أو ليبرالي، وتعاملت مع الكل بمحبة، وعلّمت نفسي ما أدخل بنقاش أو جدل ما منه فايدة، والنتيجة وإلى اليوم، أنا صديق الكل من إخوان وسلف وسنة وشيعة وليبرال، كلهم كويتيون، واللي يجمعنا أكثر من اللي يفرقنا، وأذكر ذلك كنصيحة من القلب لكل أبنائنا الطلبة المبتعثين، وأكرر: ابتعدوا عن السياسة والتحزب والخلاف، تراكم صغار بالسن، وما لكم بهالقصة، ركزوا على دراستكم ومستقبلكم، وهذه فرصة ونعمة يتمناها الكثيرون فلا تضيعوها، وللمقال بقية.

وتسلمون.

جريدة القبس في عددها الصادر التاسع والعشرون من يوليو 2025 (الرابط الإلكتروني).

متلازمة البعثات الخارجية (الاستقطاب 1) - PDF